السعودية من تصدير التطرف إلى تصدير معاوية

28 مارس 2025آخر تحديث :
السعودية من تصدير التطرف إلى تصدير معاوية

الجنوب اليمني | متابعات


في الشرق الأوسط، تتمحور ليالي رمضان حول اجتماع العائلات معًا لمشاهدة الدراما التلفزيونية بعد تناول وجبة العشاء، وعادة ما تتبع ما يعرف في المنطقة بالمسلسلات قصصاً درامية وعاطفية وتتجنب المواضيع الحساسة، لكن هذا العام مختلف بسبب النجاح الكبير الذي حققه مسلسل معاوية وهو سلسلة مكونة من 30 حلقة من إنتاج قناة MBC السعودية.

يستعرض حياة معاوية بن أبي سفيان، الذي بدأ ككاتب للوحي في زمن النبي محمد، ثم أسس الدولة الأموية، أول سلالة حاكمة في الإسلام.

تتضح طموحات الإنتاج منذ الحلقة الأولى، حيث تتوالى المشاهد وسط مناظر صحراوية مشمسة وإعادة بناء دقيقة لمدن القرن السابع، بأسواقها الصاخبة وقصورها الفخمة، وتضيف اللقطات السينمائية العلوية لمواكب القوافل والجيوش على ظهور الخيل والحشود المتحركة بُعدًا بصريًا نادرًا في الدراما العربية.

ليس “معاوية” مجرد إنتاج فخم غير مسبوق فحسب، بل يمثل أيضًا خروجًا جذريًا عن القاعدة العامة التي تبتعد بها الدراما الرمضانية عن الحساسيات الدينية.

ما يزال معاوية اليوم شخصية مثيرة للانقسام في التاريخ الإسلامي، نظرًا لأنه وصل إلى السلطة بعد صراع مع علي، الذي يقدسه الشيعة باعتباره الخليفة الشرعي للنبي، ويحظى بالتكريم لدى المسلمين السنة، بينما يُلعنه الشيعة.

يجسد المسلسل الصراع بين الرجلين كحدث مأساوي لا مفر منه، ويقدم الممثل السوري لوجين إسماعيل أداءً قوياً في دور معاوية، مصورًا إياه كاستراتيجي بارع غامض في النهاية، ويجسد الممثل الأردني إياد نصار على الجانب الآخر، دور علي بن أبي طالب بأسلوب متزن، متأمل بعمق لكنه مثقل بأعباء القيادة.

الأمر اللافت أيضًا هو الطريقة التي يُعرض بها معاوية كشخصية إنسانية معقدة، تتنقل في فترة مضطربة، بدلاً من تصويره كبطل مطلق أو شرير واضح.

ففي إحدى الحلقات المبكرة المؤثرة، يظهر معاوية وهو يصارع الشك في خلوته قبل دخول المعركة، يتمتم أدعية بصوت خافت على ضوء مصباح خافت. هذا التصوير الحميمي يتناقض بشكل حاد مع شخصيته العلنية الصارمة.

جاء رد الفعل من الجهات الدينية سريعًا وحادًا بمجرد بدء عرض المسلسل، فقد أصدر الجامع الأزهر في القاهرة، وهو المؤسسة السنية الأكثر نفوذًا، فتوى فعالة ضد المسلسل، معتبرًا أن تصوير صحابة النبي “أمر غير مقبول دينيًا”، أما هيئة الإعلام والاتصالات العراقية، فقد حظرت المسلسل بشكل كامل، محذرةً من أن “محتواه الجدلي قد يثير نقاشات طائفية ويهدد التماسك الاجتماعي”، أما إيران، فقد اتهمت السعودية بإعادة كتابة التاريخ على حساب الروايات الشيعية.

بعض الحلقات أثارت جدلًا واسعًا، لا سيما تلك التي تصور شخصيات دينية مقدسة أو لحظات مرتبطة بالنبي محمد.

يظهر معاوية في أحد المشاهد الاسترجاعية المثيرة للجدل، وهو لا يزال كاتبًا شابًا، واقفًا بقلق خارج خيمة بسيطة، مستمعًا إلى صوت النبي المكتوم من الداخل.

تتجنب الكاميرا أي تصوير مباشر لمحمد بعناية، وتركز بدلاً من ذلك على تعبير معاوية المتبصر والمتردد، وردود أفعال المارة الذين يتهامسون بدهشة، ومع ذلك، فإن مجرد فكرة تجسيد أي قرب من النبي أثارت إدانات واسعة من العلماء المحافظين، الذين يعتبرون هذه المشاهد غير لائقة أو حتى تجديفية.

“معاوية” ليس مجرد حدث ديني وثقافي، بل هو أيضًا مؤشر على تحول سياسي تاريخي في السعودية.

كانت المملكة ولعقود، تصدر أيديولوجية متشددة تُعرف في الغرب بالوهابية، والتي تؤكد على التفسير الحرفي للنصوص الإسلامية وترى في الانفتاح الثقافي انحرافًا عن الدين.

تأسست هذه العقيدة كحركة إصلاحية في القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبد الوهاب، وشكلت أساس اتفاق تاريخي، حيث التزمت أسرة آل سعود بفرض تعاليم الوهابية في أراضيها مقابل الحصول على شرعية دينية لحكمها، لكن هذا الترتيب تصاعد بشكل حاد بعد عام 1979، عندما أجبرت الثورة الإيرانية وحصار الحرم المكي على يد متمردين سعوديين الدولة السعودية على مضاعفة تشددها الديني.

قامت المملكة بتمويل آلاف المساجد والمدارس والمراكز الإسلامية حول العالم مع تدفق الثروة النفطية، ناشرةً الفكر الوهابي عبر الكتب والمطبوعات المجانية، مما ساهم في نشوء حركات متطرفة في أنحاء العالم الإسلامي، لكن العواقب باتت امراً لا يمكن تجاهله في 11 سبتمبر 2001، عندما تبيّن أن 15 من أصل 19 خاطفًا للطائرات الأميركية كانوا سعوديين، مما وضع السياسات الدينية السعودية تحت المجهر العالمي.

وجدت العائلة المالكة نفسها محاصرة، تعتمد على رجال الدين المتشددين للشرعية الداخلية، بينما تواجه ضغوطًا دولية للحد من نفوذهم.

ثم جاء محمد بن سلمان—MBS—الأمير الشاب الذي قرر إعادة تشكيل الهوية السعودية.

قام MBS منذ صعوده إلى السلطة في عام 2017، بما كان يُعتبر مستحيلًا: تفكيك النفوذ الوهابي بشكل منهجي في الحياة العامة السعودية.

وخلال أشهر من توليه الحكم، أطلق حملة قمع واسعة ضد رموز التيار الإسلامي في المملكة، واعتقلت السلطات عشرات الشخصيات الدينية البارزة، بمن فيهم الشيخ سلمان العودة، الداعية الشهير الذي كان لديه 14 مليون متابع على تويتر ويواجه بعضهم حكم الإعدام لمجرد عدم دعمه العلني لسياساته، كما قام بتقليص نفوذ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي كانت تتدخل في حياة الناس الشخصية، وتقتحم المقاهي لفرض القواعد الدينية.

إذا كانت العصا في حكم محمد بن سلمان هي القمع، فإن الجزرة هي التحرير المذهل للحياة اليومية، فقد ارتفعت مشاركة النساء في سوق العمل بشكل غير مسبوق، متجاوزة الأهداف الحكومية، ولم يعد من غير المألوف رؤية نساء بشعر غير مغطى أو شباب وشابات يسيرون معًا جنبًا إلى جنب، وهي مشاهد كانت في السابق غير واردة.

مثلّت هذه التغييرات بالنسبة لكثير من السعوديين—خاصة الشباب الذين يشكلون غالبية السكان—نسمة هواء طال انتظارها.

المفارقة في محمد بن سلمان أنه يحارب القمع الديني بينما يمارس القمع السياسي.

قد يكون MBS عبر اغلاقه جميع قنوات المعارضة السلمية يزرع بذور عدم الاستقرار المستقبلي —وهو الأمر الذي يسعى لمنعه.

التاريخ مليء بأمثلة قاتمة عن المعارضة المكبوتة التي انفجرت في النهاية، فحملة القمع ضد الإسلاميين في مصر خلال الستينيات أدت، على الأرجح، إلى ظهور أجيال أكثر تطرفًا، وقمع الشاه في إيران لمنتقديه أدى إلى انفجار سياسي عندما سقط في النهاية.

وسط هذا المناخ السلطوي، فإن السماح للثقافة الشعبية السعودية باستكشاف قضايا السلطة والدين والمجتمع هو خطوة أولى مهمة نحو الحرية.

من الأمثلة على ذلك، فيلم “مندوب” وهو دراما سوداء أنتجت في 2023، يتناول حياة رجل هش نفسيًا يلجأ إلى توصيل الكحول المحظور في الرياض بعد فقدان وظيفته في مركز اتصال.

لقد كان تصوير الفيلم الصريح لمواضيع مثيرة للجدل في بلد تحظر فيه الكحول بمثابة صدمة للكثير من المراقبين في المنطقة.

أما بالنسبة لمسلسل “معاوية”، فهو ليس مجرد دراما تاريخية؛ بل هو محاولة لتحرير الحاضر من التفسيرات الأحادية المبسطة للتاريخ.

وسواء أثار المسلسل حوارًا مثمرًا أو عمّق الانقسامات الطائفية، فهذا ما سيكشفه الزمن، لكن الأمر الواضح هو أن السعودية لم تعد تكتفي بتصدير الأيديولوجيا الدينية—بل أصبحت تصدر دراما تلفزيونية جدلية تثير التفكير، وربما يكون ذلك بنفس القدر من التأثير.

مقال لبرادلي هوب في صحيفة وول ستريت جورنال

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق